تفسير قوله تعالى فلما رأى أيديهم لا تصل اليه

التفسير الكبير ، الصفحة : 22 عدد الزيارات: 24067 طباعة المقال أرسل لصديق

ثم قال تعالى : ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ) أي إلى العجل ، وقال الفراء : إلى الطعام ، وهو ذلك العجل ( نكرهم ) أي أنكرهم .
يقال : نكره وأنكره واستنكره .
واعلم أن الأضياف إنما امتنعوا من الطعام ؛ لأنهم ملائكة ، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، وإنما أتوه في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها ، وهو كان مشغوفا بالضيافة ، وأما إبراهيم - عليه السلام - ، فنقول : إما أن يقال : إنه - عليه السلام - ما كان يعلم أنهم ملائكة ، بل كان يعتقد فيهم أنهم من البشر ، أو يقال : إنه كان عالما بأنهم من الملائكة ، أما على الاحتمال الأول فسبب خوفه أمران : أحدهما : أنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس ، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به مكروها ، وثانيهما : أن من لا يعرف إذا حضر وقدم إليه طعام ، فإن أكل حصل الأمن ، وإن لم يأكل حصل الخوف ، وأما الاحتمال الثاني : وهو أنه عرف أنهم ملائكة الله تعالى ، فسبب خوفه على هذا التقدير أيضا أمران : أحدها : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه .
والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه .
فإن قيل : فأي هذين الاحتمالين أقرب وأظهر ؟ قلنا : أما الذي يقول : إنه ما عرف أنهم ملائكة الله تعالى فله أن يحتج بأمور : أحدها : أنه تسارع إلى إحضار الطعام ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك .
وثانيها : أنه لما رآهم ممتنعين من الأكل خافهم ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما استدل بترك الأكل على حصول الشر .
وثالثها : أنه رآهم في أول الأمر في صورة البشر ، وذلك لا يدل على كونهم من الملائكة ، وأما الذي يقول : إنه عرف ذلك احتج بقوله : ( لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف بأي سبب أرسلوا ، ثم بين تعالى أن الملائكة أزالوا ذلك الخوف عنه ، فقالوا : ( لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) ومعناه : أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط ؛ لأنه أضمر لقيام الدليل عليه في سورة أخرى ، وهو قوله : ( إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) [الحجر : 58 ] ( لنرسل عليهم حجارة ) [الذاريات : 33 ] .
ثم قال تعالى : ( وامرأته قائمة ) يعني سارة بنت آزر بن باحورا ، بنت عم إبراهيم - عليه السلام - ، وقوله : ( قائمة ) قيل : كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل ؛ لأنها ربما خافت أيضا ، وقيل : كانت قائمة تخدم الأضياف وإبراهيم - عليه السلام - جالس معهم ، ويؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود "وامرأته قائمة وهو قاعد" .
ثم قال تعالى : ( فضحكت فبشرناها بإسحاق ) واختلفوا في الضحك على قولين : منهم من حمله على نفس الضحك ، ومنهم من حمل هذا اللفظ على معنى آخر سوى الضحك .
أما الذين حملوه على نفس الضحك فاختلفوا في أنها لم ضحكت ، وذكروا وجوها : الأول : قال القاضي : إن ذلك السبب لا بد وأن يكون سببا جرى ذكره في هذه الآية ، وما ذاك إلا أنها فرحت بزوال ذلك الخوف عن إبراهيم - عليه السلام - ، حيث قالت الملائكة : ( لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) وعظم سرورها بسبب سروره بزوال خوفه ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان ، وبالجملة فقد كان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم - عليه السلام - ( لا تخف ) فكان كالبشارة ، فقيل لها : نجعل هذه البشارة بشارتين ، فكما حصلت البشارة بزوال الخوف ، فقد حصلت البشارة أيضا بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أول العمر إلى هذا الوقت ، وهذا تأويل في غاية الحسن .
الثاني : يحتمل أنها كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط ؛ لما كانوا عليه من الكفر والعمل الخبيث ، فلما أظهروا أنهم جاءوا لإهلاكهم ، لحقها السرور فضحكت .
الثالث : قال السدي : قال إبراهيم - عليه السلام - لهم : ( ألا تأكلون ؟ قالوا : لا نأكل طعاما إلا بالثمن ، فقال : ثمنه أن تذكروا اسم الله تعالى على أوله وتحمدوه على آخره ، فقال جبريل لميكائيل عليهما السلام : "حق لمثل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلا" فضحكت امرأته فرحا منها بهذا الكلام .
الرابع : أن سارة قالت لإبراهيم - عليه السلام - : أرسل إلى ابن أخيك وضمه إلى نفسك ؛ فإن الله تعالى لا يترك قومه حتى يعذبهم ، فعند تمام هذا الكلام دخل الملائكة على إبراهيم - عليه السلام - ، فلما أخبروه بأنهم إنما جاءوا لإهلاك قوم لوط ، صار قولهم موافقا لقولها ، فضحكت لشدة سرورها بحصول الموافقة بين كلامها وبين كلام الملائكة .
الخامس : أن الملائكة لما أخبروا إبراهيم - عليه السلام - أنهم من الملائكة لا من البشر ، وأنهم إنما جاءوا لإهلاك قوم لوط ، طلب إبراهيم - عليه السلام - منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة ، فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي ، فطفر ذلك العجل المشوي من الموضع الذي كان موضوعا فيه إلى مرعاه ، وكانت امرأة إبراهيم - عليه السلام - قائمة ، فضحكت لما رأت ذلك العجل المشوي قد طفر من موضعه .
السادس : أنها ضحكت تعجبا من أن قوما أتاهم العذاب وهم في غفلة .
السابع : لا يبعد أن يقال : إنهم بشروها بحصول مطلق الولد فضحكت ، إما على سبيل التعجب ، فإنه يقال : إنها كانت في ذلك الوقت بنت بضع وتسعين سنة ، وإبراهيم - عليه السلام - ابن مائة سنة ، وإما على سبيل السرور ، ثم لما ضحكت بشرها الله تعالى بأن ذلك الولد هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب .
الثامن : أنها ضحكت بسبب أنها تعجبت من خوف إبراهيم - عليه السلام - من ثلاث أنفس حال ما كان معه حشمه وخدمه .
التاسع : أن هذا على التقديم والتأخير ، والتقدير : وامرأته قائمة ، فبشرناها بإسحاق ، فضحكت سرورا بسبب تلك البشارة ، فقدم الضحك ، ومعناه التأخير .
العاشر : هو أن يكون معنى ( فضحكت ) : حاضت ، وهو منقول عن مجاهد وعكرمة ، قالا : ( فضحكت ) أي حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف ، فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد ، وأنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت ، قال أبو بكر الأنباري : هذه اللغة إن لم يعرفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم ، حكى الليث في هذه الآية ( فضحكت ) طمثت ، وحكى الأزهري عن بعضهم أن أصله من ضحاك الطلعة ، يقال : ضحكت الطلعة - إذا انشقت .
واعلم أن هذه الوجوه كلها زوائد .
وإنما الوجه الصحيح هو الأول .
ثم قال تعالى : ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) وفيه مسألتان : المسألة الأولى : قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، عن عاصم : "يعقوب" بالنصب ، والباقون بالرفع ، أما وجه النصب ، فهو أن يكون التقدير : بشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق وهبنا لها يعقوب ، وأما وجه الرفع فهو أن يكون التقدير : ومن وراء إسحاق يعقوب مولود ، أو موجود .
المسألة الثانية : في لفظ وراء قولان : الأول - وهو قول الأكثرين - : أن معناه بعد ، أي بعد إسحاق يعقوب وهذا هو الوجه الظاهر .
والثاني : أن الوراء ولد الولد ، عن الشعبي أنه قيل له : هذا ابنك ، فقال : نعم من الوراء - وكان ولد ولده - وهذا الوجه عندي شديد التعسف ، واللفظ كأنه ينبو عنه .